كتب ومقالات

مقالات متنوعة

تداعيات فك الارتباط

2019-09-08 01:40:26

 

 

 

تداعيات فك الإرتباط الإسرائيلي مع قطاع غزة

صحيفة الأهرام

لو أمكن التوصل إلى اتفاق حول تنقل الفلسطينيين من معبر رفح‏,‏ فإن ما يتبقى من ارتباط مدني وليس أمنياً‏,‏ ل"إسرائيل" بقطاع غزة هو قضية تزويد القطاع بما يحتاجه سكانه من احتياجات معيشية وأساسية‏,‏ الأمر الذي كان‏,‏ إلى جانب أسباب وأهداف ومبررات سياسية‏,‏ السبب الرئيسي للأزمة الأخيرة التي نشأت عن التدفق الفلسطيني إلى الأراضي المصرية في الأسبوع الثالث من شهر يناير الماضي‏,‏ يبدو أن التوصل لحل لهذا الموضوع هو أكثر المواضيع الأخرى الشائكة سهولة حيث إنه يعتمد أساساً على إمكانية التوصل إلى اتفاقات مرضية بين الجانبين الفلسطيني والمصري‏,‏ على وجه الحصر‏,‏ في هذا الشأن‏.‏

وقبل أن نتوغل في الحديث عن هذا الموضوع يجدر ترديد مقولة بهذا الشأن أدلى بها أحد وزراء الاقتصاد الفلسطينيين أثناء جلسة الاستماع التي عقدتها اللجنة السياسية التي كنت أتشرف برئاستها في المجلس التشريعي الفلسطيني‏,‏ والتي ذكر فيها أن "إسرائيل" قد تمكنت من تمويل احتلالها الطويل لقطاع غزة عن طريق الأرباح‏,‏ الحكومية والخاصة‏,‏ التي جنتها من تجارتها في القطاع‏,‏ والعائدات المالية لاحتكارها تزويده بالاحتياجات المعيشية والأدوية والمياه والوقود والكهرباء والمنتجات الاستهلاكية الأخرى حيث وصل حجم هذا التبادل‏,‏ الذي كان معظمه من صادرات من الجانب الإسرائيلي‏,‏ إلى عشرات المئات من ملايين الدولارات وتجاوزت في مجمل الأراضي الفلسطينية‏,‏ إن لم أكن مخطئا‏ًً,‏ ألفي مليون دولار‏.‏

لقد تسبب الاحتلال الإسرائيلي العسكري والاقتصادي لقطاع غزة‏,‏ الذي استمر بشكل أو آخر نحو ثمانية وثلاثين عاما‏ًً,‏ في القضاء على القدرات الإنتاجية الصناعية التصديرية الصغيرة‏,‏ وحدد من الإنتاج الزراعي المخصص للتصدير‏,‏ خاصة الحمضيات والزهور‏,‏ وأنهى بشكل تام منذ تصاعد الانتفاضة الفلسطينية في عام ‏2000‏ سوق العمالة الفلسطينية‏,‏ وفرص الاستثمار‏,‏ والتجارة والصناعة الداخلية‏,‏ وفيما عدا الاكتفاء بالإنتاج الزراعي من الخضراوات لهدف الاستهلاك المحلي‏,‏ فإن قطاع غزة يحتاج لكل ما عدا ذلك من مقومات الحياة‏.‏ ولقد قامت "إسرائيل" بتوفير تلك الاحتياجات بالأسعار والكميات التي تحددها ليس بهدف تأمين المستلزمات اللازمة لاستمرار الحياة والتقدم الاقتصادي للفلسطينيين بل وأساساً نتيجة لضغط المستفيدين من التجار ورجال الأعمال الإسرائيليين وكذلك الأرباح التي تحققها الحكومة الإسرائيلية نفسها‏.‏ واستمرت نتيجة لكل تلك العوامل وبهدف السيطرة الكاملة في القيام بذلك حتى في أحلك أوقات المواجهات العنيفة على الأرض‏, بما في ذلك بعض فترات الأزمة الأخيرة‏,‏ لقد شهدت سنوات التصعيد الأخيرة حالات كانت فيها قوات الاحتلال تفرض حصاراً على تنقل الفلسطينيين الداخلي والخارجي‏,‏ وتذيقهم ويلات الاجتياحات والتدمير والاغتيالات‏,‏ بينما كانت المعابر من الأراضي الإسرائيلية المخصصة لنقل البضائع إلى قطاع غزة تشهد قوافل من الشاحنات الإسرائيلية التي تغرق الجانب الإسرائيلي من تلك المعابر بمختلف أنواع البضائع والمنتجات الاستهلاكية والفواكه التي تقوم شاحنات فلسطينية بنقلها إلى داخل القطاع‏.‏

استطاعت "إسرائيل" في وقت مبكر من وجود السلطة الوطنية على الأراضي الفلسطينية عام ‏1994,‏ ومن خلال اتفاق باريس الاقتصادي بين الجانبين‏,‏ أن تحدد تساوي الأسعار في المناطق الفلسطينية والإسرائيلية‏,‏ برغم الفوارق الهائلة في الدخول السنوية للأفراد على جانبي الحدود‏,‏ عن طريق فرض التعريفة الجمركية الإسرائيلية على البضائع المستوردة للمناطق الفلسطينية منعاً لتهريبها للسوق الإسرائيلية‏,‏ وأن تؤمن ضمان حصولها على أموالها وأرباحها الناتجة عن تجارتها هذه مع الجانب الفلسطيني‏,‏ وإلزام السلطة الفلسطينية بتسديد ثمن أي استيراد حكومي أو عام‏,‏ أو أي أموال أخرى‏,‏ اتبعت "إسرائيل" لتحقيق هذا الهدف قيوداً مالية تقضي بحجز السلطات الإسرائيلية المعنية بشكل مسبق‏,‏ وعند وصول البضائع الفلسطينية المستوردة إلى الموانئ الإسرائيلية أو شرائها من تجار إسرائيليين مباشرة‏,‏ بحجز كافة رسوم الاستيراد والاحتفاظ بها ثم إعادتها للسلطة الفلسطينية بعد استقطاع المستحقات الإسرائيلية المترتبة على تزويدها للفلسطينيين بالكهرباء والوقود والغاز وأي ادعاءات مالية من قبل تجار أو رجال أعمال أو مستشفيات وأطباء ومواطنين إسرائيليين عاديين حتى لو كانت هذه الادعاءات أو بعضها غير صحيحة أو مبالغ فيها‏,‏ تم بهذه الطريقة تعويض إسرائيليين بادعاءات غير حقيقية أو قانونية تتعلق بخدمات طبية أو علاجية أو فندقية أو فروق أسعار وحتى تضرر مدعي من بعض عمليات مقاومة تعرض لها مواطنون إسرائيليون عاديون‏.‏

استعملت "إسرائيل" أيضاً بعض المبالغ المالية الفلسطينية المحتجزة التي كانت أحياناً تصل إلى مئات الملايين من الدولارات لعقاب الفلسطينيين على مقاومتهم للاحتلال أو رفضهم لبعض الشروط الأمنية والسياسية‏,‏ منذ أيام الرئيس الراحل ياسر عرفات‏,‏ في الوقت التي كانت فيه هذه الأموال جزءاً من ميزانية السلطة الفلسطينية اللازمة لعملها ونفقاتها خاصة فيما يتعلق بسداد مرتبات الموظفين والعاملين في السلطة وتغطية تكاليف المشاريع والصيانة والنفقات الصحية والتعليمية‏,‏ كانت "إسرائيل" تقوم بوقف تزويد القطاع بالكهرباء والمياه والوقود اللازم في حال تأخر السلطة عن سداد الأموال المترتبة على الاستهلاك‏,‏ وتم السداد بتبرعات وهبات من الاتحاد الأوروبي خاصة لضمان استمرار تزويد محطة كهرباء غزة بالوقود اللازم لإنتاج الكهرباء الضرورية للمنازل وللشوارع والمستشفيات والإدارات الحكومية‏.‏

يتشكك الكثير وأنا منهم في أن تتخلى الحكومة الإسرائيلية طواعية عن هذه التجارة التي تحقق لها ولعدد كبير من التجار الإسرائيليين دخلاً مالياً معتبراً وسيطرة وتحكماً كبيرين‏.‏ ولكن على احتمال تغلب الاعتبارات الأمنية على الاعتبارات التجارية في القرار الإسرائيلي‏,‏ فهل ستستطيع مصر‏,‏ البلد العربي الوحيد المتاخم لقطاع غزة القيام بذلك؟

هل سترغب مصر أو تتمكن بما لديها من إمكانيات إنتاجية صناعية وأساسية وزراعية من القيام بالدور الذي لعبته "إسرائيل" طوال نحو أربعة عقود من الزمن بشكل أفضل وأكثر استقراراً وأقل تكلفة وأجدى فائدة للطرفين المصري والفلسطيني؟

هل سوف ينجح الطرفان الفلسطيني والمصري في إعادة العمل وفق التراث التجاري عبر قرون طويلة من العلاقات بين مصر وفلسطين خاصة الجزء الجنوبي منها؟

هل ستقبل مصر أن تكون المحطة الأخيرة للمستوردات الفلسطينية من الأسواق العالمية وفق اللوائح والقوانين الدولية التي تحكم مثل تجارة الترانزيت المعروفة هذه؟

من ناحية نظرية وأخوية فإن ذلك ممكن‏,‏ فيما عدا تزويد قطاع غزة بالمياه خاصة أن الحكومة المصرية مازالت في الخطوات النهائية لإيصال المياه اللازمة للمدن المصرية المتناثرة في شمال سيناء وحتى الحدود الفلسطينية‏,‏ إن العلاقات التجارية الخاصة‏,‏ غير الحكومية‏,‏ محكومة بمبدأ العرض والطلب في الأسواق وبين التجار أنفسهم‏,‏ وهي أيضاً خاضعة لقوانين ورسوم التصدير والاستيراد التي تحددها الدول المعنية‏,‏ أو هي حالة الوضع الفلسطيني‏,‏ القوى المسيطرة على أحد جانبي الحدود‏,‏ أما الاتفاقات الاقتصادية والتجارية والتبادلية بين الدول مثل منتجات البترول والغاز والمياه والكهرباء‏,‏ فإنها تحتاج إلى اتفاقات رسمية وتجهيزات فنية‏,‏ وضمانات للسداد من البلد المستورد‏.‏

تبقي احتمالات هذا التعاون الرسمي خاضعة لأمور معقدة تتعلق بالدراسات الفنية والتكاليف اللازمة لمثل هذه المشاريع المشتركة والفترة الطويلة التي قد يتطلبها ذلك والبدائل الممكنة أثناء تلك الفترة خاصة أن المواطنين في غزة يحتاجون لمثل هذه الخدمات الضرورية بشكل عاجل‏.‏

يبقي السؤال الأهم والأصعب‏,‏ نفسياً وسياسياً وواقعياً,‏ السؤال الذي يتحتم الإجابة عليه الآن وقبل الشروع في اتخاذ القرار من الجانبين‏,‏ الإجابة التي تعكس وتحافظ على العلاقات التاريخية المتينة بين الشعبين الفلسطيني والمصري‏,‏ وتؤمن استمرار علاقة اقتصادية وتجارية عادلة ومستقرة وهادئة‏,‏ هل يستطيع المصريون والفلسطينيون التوصل إلى تفاهم حول كيفية حل الخلافات بينهما إذا ما تعرضت الاتفاقات التجارية التي توصلوا إليها في مجالات المياه والوقود والكهرباء للنزاع‏,‏ كيف سيتم سداد الالتزامات المالية المترتبة على هذا التعاون فيما لو لم يستطع المواطنون الفلسطينيون نظراً لظروفهم الاقتصادية الصعبة‏,‏ وبالتالي السلطة أو الحكومة الفلسطينية‏,‏ من تسديد ثمن الوقود المصري لمحطة كهرباء غزة‏,‏ أو الكهرباء المصرية إذا تم تزويد قطاع غزة بها مباشرة أو المياه المصرية فيما لو تم إيصالها‏,‏ هل يمكن لمصر الشقيقة والجارة العربية قطع هذه الإمدادات الحياتية كما كانت تهدد وتفعل "إسرائيل" دائما‏ً,‏ وتنتظر من ثم تدفقاً فلسطينياً آخر؟

يتحتم على كل من الجانبين المصري والفلسطيني بدء دراسة هذا جديا‏ًً,‏ ليس لأنه خياراً حالا‏ًً,‏ بل مجرد احتمال ممكن‏,‏ وضرورة لتجنب احتمالات أسوأ‏,‏ لقد شاء القدر أن تتجاور مصر وفلسطين‏,‏ وهما قادرتان على حل خلافاتهما ومشاكلهما في إطار الجوار والعلاقات القومية والدين والأهداف‏,‏ كما ينبغي بدء تشكيل لجنة فلسطينية مصرية مشتركة لدراسة ما يمكن لمصر أن تقدمه وكيف‏,‏ وعلى الفريقين الفلسطينيين المتنازعين أن يتعاونا من أجل تشكيل الطرف الفلسطيني في اللجنة المشتركة إذا كان صحيحاً ما تردده أجهزة إعلامها ويكرره المتحدثون الرسميون لها من اهتمام وقلق من معاناة المواطنين الفلسطينيين في قطاع غزة‏.‏ وعلى الدول العربية التي تملك الإمكانات والتعاطف والإيمان بعدالة قضية الشعب الفلسطيني أن تقدم المساعدة والدعم في هذا المجال مرة أخري‏,‏ ليس لمصر التي لا تحتاجه ولكن لفلسطين‏.‏