الانقسام الفلسطيني
الفدرالية .. آخر الحلول
منذ أن فاجئت حركة حماس العالم بالفوز بأغلبية أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني في الانتخابات الفلسطينية العامة عام 2006 فإن معضلة التوصل لتفاهم فتحاوي وحمساوي حول المشاركة بين أكبر وأبرز الفصائل الفلسطينية تتراوح في عواصم عربية وووسطاء عرب وأجانب ولقاءات وتصريحات واتهامات يعرفها الجميع. يركّز أحد الفصيلين منذ ذلك التاريخ بهمة وعزم ووضوح لا يحتاج الاستنتاج على إستعادة القطاع السليب من فك حركة حماس، بينما يعمل الفصيل ألأخر بجد وتصميم على إرساء أسس إمارة مستقلة ذات سيادة في الركن الضيق الجنوبي الغربي مما تبقى من الأرض الفلسطينية خارج الضفة الغربية.
ولقد خدع الفلسطينيون الأبرياء أنفسهم، أولئك الذين كانوا يعتقدون أن من الممكن تحقيق التفاهم بين التنظيمين المتنافرين حول إعادة اللحمة للشعب والأرض الفلسطينية اعتمادا على وطنية ومسؤولية الفصيلين الأخوة الأعداء، الأمر الذي فشل فيه الجميع، ونتيجة لفشل الفصيلين بتحقيق مطالب ورغبات ومطالب الشعب الفلسطيني الذي بدوره فقد الأمل وتراجع عن العمل لإقناعهم أو ارغامهم على ذلك. ولم تكن المحاولات العربية لتحقيق الوحدة أكثر نجاحاَ من اللقاءات الفلسطينية ضمن وساطات العديد من العواصم الفلسطينية وما رافقها من اقتراحات ومكافئات وتهديدات. تم اتخاذ موافقات إعلامية طنانة عقب كل اجتماع لم ينفّذ منها كلمة أو حرف. ومع ذلك تتابعت اللقاءات المظهرية بعد اجتماعات القاهرة المتكررة وزيارات الوفود المصرية لغزة وبيت لحم، ودعوات للقاء في اجتماعات مكة المكرمة والسودان والدوحة وبيروت والجامعة العربية.
وصل الجميع لقناعة لا تقبل النقض أن الطرفين الفلسطينيين لا يرغبان للعودة إلى فلسطين موحّدة. وترسخت هذه القناعة لدى كافة الدول والشعوب العربية والإسلامية، والولايات المتحدة ودول أوروبا، ولإسرائيل، والصين وروسيا. ويتسائل كل هؤلاء عن السبب والدافع من قبل الفلسطينين على التصميم على الإنقسام في عهد تتوجه فيه دول العالم نحو الإندماج والتحالف.
إن حق الشعوب في اختيار ممثليها ومصيرها ومستقبلها هو حق مقدّس يعتمد على الاختيار الطوعي للمواطنين وليس توافق الأحزاب والفصائل مهما كان دورها وتاريخها وسلطانها. المشكلة الأساس لهذا الوضع الفلسطيني الخاضع لمصلحة الفصائل والأحزاب التي يستقوي وتعتمد على التحالفات الإقليمية والدولية التي تنتمي لها الأحزاب الفلسطينية الأقوى والأكبر، حركة فتح وحركة حماس، ودعم تلك الدول المتحالفة ماليا وعسكريا لكل منهما. الإنفصال أو التوحّد هو قرار لا يملك إقراره سوى الشعب الفلسطيني وحده. والطريق نحو معرفة ما يريده الشعب الفلسطيني هو الاستفتاء الحر المعلن وليس القرار الحزبي المفروض بالقوة والعقاب والتهديد. سواء من مدينة غزة أو مدينة رام الله. وهناك نظم سياسية عديدة في التجربة الانسانية السياسية للحماية الجهوية أو الأقليات أو الديانات من سطوة وهيمنة الأحزاب المهيمنة بالقوة والسلاح.
يوما يعد يوم تزداد الهوة اتساعا بين الضفة وبين غزة كما نزداد الجفوة بين شعبيهما الفلسطينيين اللذين لم تفرقهم كل الحادثات التي مرت عليهما منذ بدأ التاريخ، وجاءت عاصفة الكرونو لتثبت مدى البعد بين ما تبقى للفلسطينيين من أرض حيث انقسم الجهد والتصدي للوباء بين كيانين منفصلين يعتمد كل منهما على حلفائه بعيدا عن التعاون والمشاركة الفاعلة في دحر الخطر الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني باسره.
ولقد شهد التاريخ الحديث تصادم مواطني دول عتيدة وعديدة حول إمّا المطالبة بمزيد من الصلاحيات والاستقلالية بعيدا عن الإدارة الصارمة التي تفرضها الحكومات المركزية في بلد ما، أو فقدان الانسجام بين الأصول والديانات والطوائف المختلفة على مثال الأيرلنديين في الجزر الإنكليزية، والأكراد مع الغالبية العربية، وجنوب وشمال السودان، وحروب دول البروتستانت مع الكنيسة اللاتينية. وثورة البلاد العربية ضد الخلافة التركية، والخلاف المستعر لا زال بين شمال إسبانيا وجنوبها. كان هذا الخلاف يهدف للاستقلال التام لتلك الأقليات والطوائف والأصول المختلفة والساعية للمزيد من الحرية والاستقلالية من أجل عيش أفضل. ولكن تمكّن العقل البشري من التوصل لحل سلمي لهذا التشابك الدموي دون اللجوء للانفصال أو الاستقلال، وكان اسم ذلك الحل "الدولة الفدرالية".
في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي تبلورت بوادر أول دولة فدرالية في التاريخ على يد المهاجرين الأوروبيين للعالم الجديد، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، نتيجة لضرورة احتضان المهاجرين الجدد المختلفين في الأعراق واللغات والعادات والديانات. وهناك اليوم عشرات من تلك النوع في مختلف الكرة الأرضية مثال دولة ألمانيا ودولة البرازيل ودولة الإمارات المتحدة وسويسرا.
توفّر الدول الفدرالية لبعض شرائح المجتمعات المختلفة لإنشاء حكومة إقليمية مرتبطة في مساحة جغرافية متصلة ولها قوانين خاصة اقتصادية وإدارية وجنائية، ويحكمها حاكم منتخب يساعده برلمان الولاية المنتخب أيضا والذي يصدر قوانين الولاية الإدارية والاقتصادية والجنائية كما يفرض ضرائب الولاية، وتصدر حكومة الولاية وكل ما يتعلق بالولاية من قوانين ولوائح مما قد تكون جميعها مختلفة عن الولايات الأخرى للدولة، ويرفرف على أرضها علم الولاية بجانب علم الدولة الفدرالية ونشيد خاص بالولاية تالي للنشيد الوطني للدولة.
تحتفظ الحكومة الفدرالية بقليل من الصلاحيات التي لا تتعارض مع ولاية وصلاحيات الولايات المختلفة، وعلى سبيل المثال فإن الحكومة الفدرالية الأمريكية القابعة في العاصمة واشنطن تملك الصلاحية المطلقة في أقل من عشر صلاحيات فقط. منها القوات المسلحة، والسياسة الخارجية، وإصدار النقد ومقاومة التزوير النقدي، وفرض ضرائب الدخل الفدرالية، وخفر السواحل، والغابات.
إن المثال الواضح في نجاح الدولة الفدرالية بوقف الحروب والثورات وتأمين مشاركة الجميع في النهوض بالأوطان يتجلى في العراق الذي ذاق الحروب مع الحكومة االمركزية للعراق لسنوات طويلة ومريرة والذي يحتضن اليوم الكثافة الكردية في شمال العراق منذ سنوات عديدة في ولاية ذاتية الحكم ومن خلال مشاركتهم في تسيير أمورهم من خلال رئيس منتخب وبرلمان محلي منتخب وحكومة وأجهزة أمن محلية، يرتفع اليوم علم الكيانية الكردية ويتردد نشيدها ضمن دولة العراق والمشاركة بالمواطنة في دولة عراقية مستقلة.
هل يمكن أن يكون هذا المثال ملائم لإعادة اللحمة للشعب الفلسطيني وفصائله، ومبادرة جديدة لعمل فلسطيني فاعل تتوزّع فيه المسؤوليات ضمن فلسطين موحّدة. هل من الممكن أن يكون لكل من غزة والضفة مجلس تشريعي محلي منتخب، ورئيس إقليم منتخب، وأن يكون هناك أيضا رئيس للدولة منتخب ومجلس تشريعي منتخب من المواطنين في غزة والضفة، وإسم دولة موحد وعلم لها يرتفع على كافة الأرض الفلسطينية.