عودة للفدرالية
حول مقالي السابق الذي اقترحت فيه التفكير بحل فدرالي لمشكلة التعايش السلمي الفلسطيني المستعصية، جاءت معظم الردود القليلة متشككة من تأثير الحل الفدرالي على مصير الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. ومثل هذا التشكك مفهوم من ثلاثة أو أربعة أجيال من فلسطين الذين عانوا ثم عاشوا التطور النضالي والسياسي الفلسطيني وتضحياته التي تبلورت حول حق العودة للائجين الفلسطينين وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. ولقد ضرب الشعب الفلسطيني، نساؤه ورجاله، في كافة مراحل نضاله مثالا يتحدث عنه التاريخ للعطاء والتضحية . ولكن الواقع المؤلم يسجّل أيضا أن التطورات النضالية والسياسية الفلسطينية التي أوصلت الشعب الفلسطيني للوضع الراهن الحالي لم تتضمن تحقيق أي من المطلبين االتاريخيين للشعب الفلسطيني، ولكنها حققت تنازلات فلسطينية تبلورت في دويلة فلسطينية، لا يبدو أن لها مستقبل مشرق، على الأرض الفلسطينية التي تبقت لهم، والمنقسمة بين الفصيلين المتنازعين الأكثر شعبية والأقوى تحالفا مع دول مجاورة وغير مجاورة، حركة فتح وحركة حماس.
إن الفشل الذي حققه التنظيمين الفلسطينيين والفصائل الأخرى وقطاع كبير من الشعب الفلسطيني المتفرّج يكمن في عدم الالتزام أوالتمكّن أو الإرادة ربما، للتوصل إلى نظام سياسي مشترك يضمن حق الشعب الفلسطيني باختيار قيادته الرئاسية والتشريعية من خلال انتخابات نزيهة ووفق مبدأ تداول السلطة السلمي. يدرك الفلسطينيون اليوم أن بداية الصدام الحقيقي مع الدولة الإسرائيلية النهمة لابتلاع الأرض الفلسطينية، من خلال دويلتين فلسطينيتين ضعيفتين ومتنازعتين، لا يمكن أن يوصل لدولة فلسطينية فاعلة ولا يعيد لاجئين فلسطينيين ليلادهم.
قد يكون تاريخ ما أصبح يطلق عليه اليوم بفلسطين قد ترك تإثيره على الأوضاع التى تحيط بفلسطين اليوم. فخلال تاريخ طويل لهذه القطعة من الأرض لم يحظ شعبها بحكم نفسه بنفسه. فمنذ أن خضعت فلسطين للحكم العربي الإسلامي، مرورا بحكم الخلفاء ثم الملوك الأيوبيين الذين تلاهم الأتراك كانت فلسطين محكومة إداريّا من مراكز مختلفة خارج الأراضي الفلسطينية مثل دمشق في سوريا وصور أو بعلبك في لبنان أو الكرك في الأردن. وبعد الاحتلال البريطاني عام 1917 فرض الاحتلال قوانينه وحكمه بعيدا عن المشاركة الفلسطينية، ولم تدع العصابات الصهيونية فرصة لحكم فلسطيني ذاتي. في تلك الفترة تنادت بعض الدول العربية التي تأسست بعيد انتهاء الاحتلال البريطاني والفرنسي واتفقت قياداتها السياسية والمجتمعية على وضع نظم حاكمة استمرت سارية، بعد تعديلات وانقلابات وصدامات داخلية، حتى وقتنا الحالي. هذا الأمر الذي لم يستطع الشعب الفلسطيني التوصل إليه نتيجة للاحتلال والمؤامرة الصهيونية والخلافات الفلسطينية الداخلية. فشلت الأحزاب الفلسطينية والطليعة المتنوّرة حتى في سنوات المقاومة الأولى من الظهور كحركة تحرير متماسكة تناضل لتحقيق نظام حكم محلي. كانت أول خطوة للفلسطينيين في هذا الاتجاه في عام 1964 بإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية بدعم وقرار عربي، بينما وضع أساس النظام الداخلي الفلسطيني ومبادئ النعايش السلمي للشعب الفلسطيني في عام 1988 بإعلان الدولة الفلسطينية في الجزائر وما تم فيما بعد من إرساء أسس وقواعد في السنوات التالية التي انتقلت فيها لأول مرة في تاريخها القيادة الفلسطينية إلى أرض فلسطين.
كانت الفترة التي تلت عودة القيادة الفلسطينية إلى الأرض الفلسطينية واعدة ببدء انطلاق الشعب الفلسطيني من خلال المؤسسات التشريعية والتنفيذية لفرض نظام سياسي يحدد كيفية التوصل للتعايش السلمي وصلاحيات الرئيس ومسؤوليات المجلس التشريعي وأداء الأجهزة الأمنية والإدارية وكان أول الشروط إمكانية التنفيذ وضمان المشاركة. ثم انهار هذا الصرح اليافع من داخله وقضي عليه كليا بوحشية الاحتلال ودفن بأيدي التنظيمات الفلسطينية.هل يدرك الفلسطينيون اليوم الخطر الداهم الذي ينتظرهم وينتظر أرضهم ومستقبلهم كشعب واحد متضامن موحّد؟
بات من الواضح أنه ليس هناك بارقة أمل واحدة لتصالح فلسطيني، وأن جهود الطرفين المتنازعين تنصبّ على تقوية مواقفهم وزيادة أحلافهم وتثبيت أقدامهم على ما يملكون من أرض. وهما كلاهما فتح وحماس يفاوضان الإسرائيليين لضمان بقائهم وليس لفرض وحدتهم. وترسل رام الله الأموال لأنصارها في غزة بينما ترسل قطر أموال نيابة عن حماس لانصارها هناك. وهناك وزارة داخلية وأجهزة مخابرات ووزارات مالية وخارجية، ومباحث وسجون ومحاكم في كل من غزة ورام الله. ولم يعد أحدا يتكلم عن مؤتمرات ولقاءات للنقاش والتصالح، ولا يعرف الجميع كم قريب هو انهيار المعبد. هل لا زال السيد هنية رئيسا لحركة حماس أو هة ذلك القائد المسيطر الذي يتجول في أنحاء القطاع؟ ومن هو الذي فاز وثبّت أقدامه من قيادة الداخل أو قيادة الخارج في حركة حماس؟وهل الدكتور اشتية هو خيار حركة فتح أو هو المساعد الأقرب والأكثر ولاء للرئيس عباس؟ وما هي تلك الأسلحة والأموال التي تصادرها قوات الاحتلال الإسرائيلي بين حين وآخر في المكاتب والمخيمات والبيوت؟ هل هي للمقاومة أو هي للمعارك القادمة حول المناصب والمراكز؟.
تتضائل خيارات الشعب الفلسطيني في المرحلة الراهنة في العودة للوحدة، كما يزداد توافق الفصائل بالرضى بالانفصال، ويبدو أن تقبّل الشعب الفلسطيني لهذا المصيرجاء نتيجة للموقف العبثي الذي يغلّف العمل الوطني الفلسطيني منذ حوالي عقدين من الزمن. وبين الحسم الفصائلي الواضح نحو الانفصال، وخيبة الأمل الشعبية بإمكانية تحقيق الدولة الفلسطينية المستقلة، حتمية وضرورة الوقوف عند محطة أمل أخيرة هي الاتفاق على الدولة الفدرالية. بين الخيارات الثلاث المتاحة للشعب الفلسطيني، العودة للدولة الواحدة الموحّدة، أو اللجوء لدولة فدرالية، أو الانفصال على غرار حل الدولتين، يبدو الخيار الأخير هو المفضّل من الفصيلين الفلسطينين . والسبب الحقيقي لهذا الاتجاه نحو الانفصال هو الرغبة في تجاوز حاجز الانتخابات المطلوبة في خيار الدولة الموحدة وخيار الدولة الفدرالية. تضمن الانتخابات الرئاسية والتشريعية مبدأ العودة للشعب الفلسطيني صاحب الولاية الوحيد باختيار قياداته، المبدأ الذي لا تريد خوضه حركة حماس ولا حركة فتح. يعرف قادة الفصيلين المهيمنين على أمور الشعب الفلسطيني بأن الانفصال خسارة للطرفين، وأن أول العلاج هي الانتخابات، وآخر العلاج هو الكيّ، والذي سيتعذب بالكي هو الشعب الفلسطيني في غزة والضفة وأينما أخذته الهجرة.
يتحتم على قيادات الفصائل الفلسطينية قبل أن يفوت الأوان التوصل لوسيلة تضمن التعايش السلمي للشعب الفلسطيني في المستقبل المنظور. إن العودة للدولة الموحّدة أو الإلتجاء لدولة فدرالية لا تلغي الإنتماء الحزبي الفلسطيني ولكنها السبيل الصحي لتحقيق ذلك الانتماء. بينما الأمر الذي لن يحقق الدولة الفلسطينية المستقلة، ولا عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى بلادهم هو تفتيت ما تبقى من فتات من الأرض الفلسطينية بين فصيلين فلسطينيين. الانتخابات الفلسطينية عام 1994 التي فازت بها حركة فتح لم تعطها الحق المطلق لحكم الشعب الفلسطيني للأبد، والاستحواذ على وظائفه ومناصبه، كما أن انتخابات عام 2006 والتي فازت بها حركة حماس لم تعطها الحق لفصل وحدة الشعب الفلسطيني وإعلان دويلة وحكومة جديدة له. إن التمسك بمنطق "الانتخابات لمرة واحدة" يتعارض تماما مع المبدأ الأساس للإنتخابات وهو "الانتخابات الدورية".
إلى متى سيعيش الشعب الفلسطيني تحت قيادة لم ينتخبها؟